وكالة الأنباء العراقية المستقلة بغداد ,,
فريد هلال
في أرض ما بين النهرين، حيث ولدت الحضارة الأولى، كان السومريون يرون في الموت رحلة أبدية لا تنتهي بفناء الجسد، بل بالانتقال إلى عالم آخر. وقد جسّدوا هذا الإيمان من خلال طقوسهم الجنائزية وأناشيدهم الحزينة التي تُعرف بـ "النعي السومري"، تلك الكلمات التي تحمل في طياتها أسى الفقد وتوق الخلود، لتصبح واحدة من أقدم أشكال التعبير الإنساني عن الحزن والأسى.
النعي السومري لم يكن مجرد كلمات تُقال في لحظات الوداع، بل كان طقسًا مقدسًا، يرافقه البكاء واللحن الحزين الذي ينبعث من أوتار القيثارة السومرية. هذه الألحان التي كانت تصدح في جنائز الملوك والعامة على حدٍّ سواء، تعكس فيض المشاعر الإنسانية التي لا تتغير مع مرور الزمن. وما زالت النصوص السومرية تحمل لنا شواهد من تلك الطقوس، مثل مرثية سقوط مدينة أور التي صوّرت ألم الخراب وضياع المجد، ومرثية جلجامش لصديقه إنكيدو، حيث عبّرت عن الحزن العميق لفقدان الأحبة والخوف من مواجهة الموت.
كان السومريون يعتقدون أن النعي يساعد روح الفقيد في رحلته إلى العالم السفلي. لذلك، كانوا يجتمعون حول جسده، يطلقون الأناشيد ويرددون كلمات الوداع بصوت حزين مهيب، وكأنهم يسيرون معه في رحلته الأخيرة. وكانت كلمات النعي غالبًا ما تصف حياة الفقيد وفضائله، فتُخلّد ذكراه وتمنحه نوعًا من الخلود الرمزي في قلوب محبيه.
طقوس النعي السومري لم تكن مجرد حزن وبكاء، بل كانت تعبيرًا عن الأمل في الخلود. فقد علّمنا السومريون أن الموت ليس نهاية القصة، بل هو بداية لحياة أخرى. وكانت الأناشيد الجنائزية وسيلة لإبقاء الأسماء حيّة في ذاكرة الزمن، ولتذكير الأحياء بأن الحياة قصيرة، وأن ما يخلّد الإنسان هو ذكراه وأثره في الآخرين.
في الفكر السومري، كان الحزن على الفقدان يقترن دائمًا بالتأمل في معنى الحياة والموت. وكان النعي وسيلة للتواصل بين عالم الأحياء وعالم الموتى، وكأن الكلمات تحمل أرواح الفقيدين إلى العالم الآخر، حيث تظل أرواحهم حيّة في ذاكرة المحبين.
هذه الطقوس التي وُلدت مع أقدم حضارات العالم لا تزال حاضرة في قلوب البشرية، فقد تغيّرت الأزمان وتبدّلت الطقوس، لكن فكرة النعي بقيت جزءًا من الفطرة الإنسانية التي ترفض النسيان وتتمسك بذكرى الأحبة. النعي السومري يذكّرنا بأن الكلمات تبقى، حتى عندما يغيب أصحابها، وأن الحزن حين يُغنّى يصبح رحلة للخلود، حيث لا نهاية للذكريات، ولا انقطاع لحنين الروح.
ما أروع أن يبقى الإنسان حيًّا في كلمات تُروى، وألحان تُعزف، وذكرى ترفض أن تموت. النعي السومري هو رسالة عبر التاريخ تقول لنا: نحن لا نرثي الموتى، بل نرثي غيابهم عنّا، لأنهم في الحقيقة لا يغيبون أبدًا. |