وكالة الأنباء العراقية المستقلة بغداد ,,
فريد هلال ,,
في زواياِ
بغدادَ القديمةِ، حيثُ يختلطُ صوتُ الباعةِ مع همساتِ المثقفينَ، وحيثُ تتنفسُ
الجدرانُ رائحةَ الورقِ والحبرِ، يقفُ سوقُ السرايِ شاهدًا على قرونٍ من
الحكاياتِ. إنَّهُ أكثرُ من مجردِ سوقٍ؛ هو ذاكرةٌ تحفظُ تاريخًا طويلًا من الفكرِ
والتجارةِ والثقافةِ، ومرآةٌ تعكسُ صورةَ بغدادَ التي لم تنطفئ روحُها رغمَ
تغيُّرِ الأزمنةِ.
سوقُ السرايِ الجذورُ الأولى
يعودُ تاريخُ
سوقِ السرايِ إلى العصرِ العباسيِّ، حيثُ كانَ جزءًا من الأسواقِ المحيطةِ
بالقصورِ والمساجدِ الكبرى. ومع تعاقبِ العصورِ، أصبحَ السوقُ مركزًا رئيسيًا
لبيعِ الكتبِ والأدواتِ الكتابيةِ، مما جعلهُ محطةً أساسيةً للعلماءِ والكتَّابِ
والطلابِ.
مكانٌ لا يموتُ
يقعُ السوقُ
على مقربةٍ من شارعِ المتنبي، وكأنَّهُ امتدادٌ طبيعيٌّ له. فمن أرادَ أن يكتبَ،
لا بدَّ أن يمرَّ على سوقِ السرايِ ليبحثَ عن دفترٍ يناسبُ فكرتهِ، أو قلمٍ يخطُّ
بهِ مشاعرهُ. هنا، تجدُ المكتباتِ العتيقةَ، والمطابعَ الصغيرةَ، والمحلاتِ التي
تصنعُ دفاترَ بخياطةٍ يدويةٍ كما كانت تصنعُ منذُ عشراتِ السنينِ.
شخصياتٌ صنعتِ
المكانَ
مرَّ بهذا
السوقِ كبارُ الأدباءِ والمثقفينَ، مثلَ مصطفى جوادَ وعلي الورديِّ، وغيرِهِم
ممَّن وقفوا بين رفوفِهِ، يقلِّبونَ الكتبَ أو يناقشونَ فكرةً وُلِدَت من صفحاتٍ
صفراءَ. ولأنَّ المكانَ يصنعُ روَّادَهُ، تجدُ اليومَ جيلًا جديدًا يحملُ على
عاتقِهِ مسؤوليةَ إحياءِ هذا الإرثِ، من باعةِ الكتبِ إلى الخطَّاطينَ وأصحابِ
المطابعِ.
أكثرُ من مجردِ سوقٍ
ليس سوقُ
السرايِ مجردَ مكانٍ للتجارةِ، بل هو مساحةٌ للذاكرةِ الجماعيةِ، حيثُ يتبادلُ
الزوَّارُ قصصًا عن أيَّامٍ كانتِ الحروفُ أغلى من الذهبِ، وحيثُ تُباعُ بعضُ
الكتبِ بثمنٍ لا يساوي قيمتَها المعنويةَ. من هنا انطلقتْ صحفٌ ومجلاتٌ قديمةٌ،
وهنا ما زال البعضُ يبحثُ عن أوَّلِ كتابٍ قرأهُ في شبابهِ.
ماذا تبقَّى؟
رغمَ
التحوُّلاتِ الرقميَّةِ، ورغمَ تغيُّرِ الزمنِ، يظلُّ سوقُ السرايِ ثابتًا، كأنَّ
الزمنَ لم يستطعْ محوَ سحرِهِ. كلُّ خطوةٍ داخلهُ تشبهُ عبورَ بوَّابةٍ إلى
الماضي، حيثُ الرائحةُ نفسُها، والأرففُ نفسُها، والأحلامُ التي لم تتغيَّرْ.
ختام النشر
سوقُ السرايِ
ليسَ مجردَ مكانٍ في بغدادَ، بل هو فصلٌ من كتابِ المدينةِ، حيثُ الكلمةُ لا
تموتُ، والتاريخُ لا يُنسى. وكما أنَّ الماضي يتحدَّثُ، فإنَّ سوقَ السرايِ ما
زالَ يروي قصَّتَهُ لكلِّ من يمرُّ بهِ، ولكلِّ من يعرفُ أنَّ بغدادَ لا تفقدُ
بريقَها أبدًا.
ترقَّبوا الحلقةَ القادمةَ، حيثُ نغوصُ في
تفاصيلَ أخرى من ماضينا الذي لا يموتُ. |