وكالة الأنباء العراقية المستقلة بغداد ,,
بقلم: فريد هلال ,,
تَمُرُّ السِّنُونُ، وَتَتَغَيَّرُ الأَزْمِنَةُ، لَكِنَّ بَعْضَ الآثَارِ تَأْبَى أَنْ تُمحَى، بَلْ تَظَلُّ شَاهِدَةً عَلَى مَجْدٍ لَمْ يَنْدَثِرْ، وَعَظَمَةٍ لَمْ يَطْوِهَا النِّسْيَانُ. وَكَأَنَّهَا نُقِشَتْ بِأَيْدٍ خُلِقَتْ لِتَبْنِيَ لَا لِتَهْدِمَ، وَلِتُبْقِيَ الحَقِيقَةَ رَاسِخَةً رَغْمَ مُحَاوَلَاتِ الطَّمْسِ وَالتَّغْيِيرِ. مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الآثَارِ، يَقِفُ طَوْقُ كِسْرَى شَاهِدًا عَلَى حَضَارَاتٍ تَعَاقَبَتْ، وَأَجْيَالٍ سَارَتْ عَلَى دَرْبِ العَظَمَةِ، لَكِنَّهُ أَيْضًا يُلْقِي دَرْسًا فِي وَجْهِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ القُوَّةَ تَبْقَى لِمَنْ يَمْلِكُهَا اليَوْمَ، دُونَ أَنْ يُدْرِكَ أَنَّ مَا يُبْنَى عَلَى المَجْدِ، يَسْتَمِرُّ، وَمَا يُبْنَى عَلَى الظُّلْمِ، يَنْهَارُ وَإِنْ طَالَ بِهِ الزَّمَنُ. لَقَدْ ظَنَّ الغُزَاةُ، عَلَى مَرِّ التَّارِيخِ، أَنَّ بِوُسْعِهِمْ مَحْوَ بَصْمَةِ العُظَمَاءِ، فَهَدَّمَتِ الجُيُوشُ المُدُنَ، وَنُهِبَتِ الكُنُوزُ، لَكِنْ بَقِيَتِ الآثَارُ صَامِدَةً، تُخْبِرُ الأَجْيَالَ أَنَّ المَجْدَ لَا يُمْحَى بِالقُوَّةِ، بَلْ يُكْتَبُ بِالفِعْلِ وَالإِرَادَةِ. طَوْقُ كِسْرَى لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ بِنَاءٍ، بَلْ كَانَ رَمْزًا لِحَضَارَةٍ امْتَدَّتْ، لَمْ تُحَطِّمْهَا الحُرُوبُ، وَلَمْ تُلْغِهَا رِيَاحُ التَّغْيِيرِ. كَانَ صَرْحًا عِلْمِيًّا وَثَقَافِيًّا وَسِيَاسِيًّا، صُمِّمَ لِيَبْقَى، فَبَقِيَ! وَمَا بَقِيَ مِنْهُ اليَوْمَ، رَغْمَ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ عُصُورٍ، هُوَ شَاهِدٌ عَلَى دَرْسٍ لَا يَزُولُ: مَا يُبْنَى بِالحَقِّ، يَبْقَى، وَمَا يُبْنَى بِالبَاطِلِ، يَنْهَارُ. فَلْيَتَعَلَّمِ الجَمِيعُ أَنَّ التَّارِيخَ يُحْفَرُ بِأَفْعَالِنَا، وَلَيْسَ بِالكَلِمَاتِ، وَأَنَّ الأَثَرَ الحَقِيقِيَّ لَا تَصْنَعُهُ الحِجَارَةُ فَقَطْ، بَلْ تَصْنَعُهُ القِيَمُ وَالمَبَادِئُ الَّتِي تُخَلَّدُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ، تَمَامًا كَمَا بَقِيَ طَوْقُ كِسْرَى يَرْوِي لِلأَزْمِنَةِ قِصَّةَ الصُّمُودِ. وَهَلْ طَوْقُكَ أَنْجَاكَ مِنْ غَدْرِ دَهْرِ؟ أَمِ المَجْدُ يَبْقَى وَيَفْنَى البَشَرُ؟ |