ايام رمضان في الطفولة والشباب ملهمة بعطرة تتنفس روائحها الخالدة ---------------------------------- وكالة الانباء العراقية المستقلة فيصل سليم لم يكن الصيام مقتصراً على المسلمين منذ خلق الله البشر بل أن العالم القديم قبل مجيء الأديان ومنهم البابليون والمصريون والهنود والروم قد مارست الصيام واعتبرته عملاً روحانياً لشكر الله لدفع الأذى والبلاء عنهم. وفي أوقات أرتبط الصيام بأيام الحداد وساعات الخطر من الهجوم أو الغزو، وعندما جاءت الأديان فأن نورها قد شع بوجوب الصيام كأحدى متطلبات الإيمان بالله وبعبادات واحدة ألا ان طرق آدائها مختلفة، وهكذا الاسلام بعد أن شع نوره بقاع الدنيا لاناس تعددت ألوانهم وأعراقهم وعاداتهم وألسنتهم الا أنهم يمارسوها بفترة محددة بشهر سمي باسمه، واصبحت العادات والتقاليد تختلف أثناء شهر رمضان ولهذا تستمد الأمم هويتها من تراثها الساري في أعماق أبنائها وأصالتها المتجذرة في قلب التأريخ. يحمل شهر رمضان في طياته ذكريات لاتنسى من أيام الطفولة والشباب، فهو الكريم بعطائه المبارك، والكريم بعبادة الخالق والألتزام بشرائعه، والكريم بمعانيه، والكريم لمعرفة خصال الخير والمحبة وعودة لسلامة القلوب ولقوة النفوس، كما أنه علامة بارزة للتواصل الديني والأخلاقي والأجتماعي، سأحاول في هذا المقال أن أنقل مشاعري وموجة أحاسيسي بكل صدق وعفوية، وإن شعرت لحظة بأن هناك عبثا بما كتبت عن هذه المناسبة، فهي كبقع الضوء المتناثرة على سنين العمر ونحن نعيش بعيدين عن بلدنا. تبدو أيام رمضان في الطفولة والشباب ملهمة وعطرة تتنفس روائحها الخالدة وكإنها مسجلة في شريط لا يدركه التلف، ولابد من تأمل لحظاته الصادقة ما جرى ويجري في رمضان تعيش فيه ألف قصة هذه تحية لقدومه وتلك إبتسامة وتحية الفرد لأهله واقاربه وأحبته وتحية الصديق لأصدقائه ومعارفه وللجميع، وتلك أيضا باقة ورد زكية وأخرى هدية متواضعة نابعة من القلب، الكل عائد بفرحة تطل مشرقة من الشفاه والعيون، تحط بي رحال التذكر عنه، تحتاطنا مهما تغيرت خارطة المكان والزمان وما بين الحب لرمضان وحب الذكريات قد يتسلل بعض من الحزن لمن فقدناه من العائلة أو من الأصدقاء. وعلى الرغم من تشابه العبادات وفي بعض الأحيان العادات في الدول العربية إلا أن لدى البعض خصوصيات وتقاليد يختص بها دون غيرها تبعاً لتراثها التي توارثتها من الأجداد، العراق جميل في رمضان له تقاليد يمتاز بها وتكاد تكون متشابهة في مختلف المناطق ولكن هناك بعض من الخصوصيات التي تتميز بها وفقاً لتنوع طوائفه وقومياته، البغداديون متمسكون بالعادات العريقة ذات التراث والأصالة ومنها الأعظمية التي عاش اهلنا ونحن مايقارب الخمسون عاما، شهر رمضًان ذو التوجه الديني والروحي والحكايات الشعبية والطعام المنوع بأصنافه المختلفة، والجلسات العائلية، وجلسات المقاهي، فجميل أن نتذكرها حتى تبقى الجذور حية للنمو وهكذا عبر من سبقونا وعبر من يتطلع أليها مستقبلاً تبدأ التحضيرات لهذا الشهر الكريم قبل بدايته فتذهب العوائل الى الشورجة وهو أكبر سوق تجاري في قلب بغداد بشراء المواد الغذائية التي يحتاجونها في تحضير وجبات الافطار والسحور وهي تكون متنوعة تشمل المواد الغذائية الاساسية والحلويات والعصائر التي تجهز في أكثر الأحيان في البيت. وهي العدس والماش والحبية والحمص والتوابل والجوز والمكسرات والزبيب والطرشانة وتمر الهندي ونومي البصرة والحلويات والعصائر التي تجهز في اكثر الاحيان في البيت. عند الأعلان عن يوم رمضان عن طريق الجوامع أو ألأذاعة تتلألأ المصابيح التي تزين الجوامع، فيتبادل الناس التهاني في الشارع والمحلة والهاتف الذي لم يكن متوفر ألا في بعض البيوت، ويبدأ القسم بالذهاب الى الجوامع للأبتهال بقدوم الشهر وبدأ صلاة التراويح، وتستعد النساء والأمهات لتهيئة اللوازم لليوم الأول منه. يتميز البغداديون في أيام رمضان بالتجوال بعد الظهر والعصر تحديداً بالذهاب الى الأسواق للتسوق وقضاء الوقت وشراء الطرشي والحلويات كالبقلاوة والزلابية التي تقتنى من المكانات المشهورة مثلا في الأعظمية نعوش ورعد الشكرجي وفي شا رع الرشيد كعك السيد وباقر وصادق الشكرجي، وفي الكرخ الحاج جواد الشكرجي وفي الكاظمية صبري وتوفيق الشكرجي والتي تشتهر أيضا بصناعة حلوى الدهينية، وفي أواخر الستينات وبداية السبعينات ظهرت حلويات الخاصكي في المنصور وأبو عفيف في الكرادة. والحمداني لصناعة زنود الست، وكل الحلويات الجيدة وطعمها الشهي تعمل بالدهن الحر، كما توجد بسطات لصواني البقلاوة والزلابية في كافة أسواق بغداد الشعبية وبأسعار معقولة، البعض يتعني ويشتري شربت زبيب الحاج زبالة وشربت رمان جبار المشهورين. تتميز المائدة البغدادية عند الفطور بمذاق خاص ومتنوع، تتجمع العائلة عند بدأ الأفطار وتبدأ بأكل التمرة وشربت النومي بصرة أو الزبيب أوتمر الهندي أوقمر الدين وبعده شوربة العدس أو الماش أو شوربة كبة الحامض، سيد مائدة الأفطار التشريبيوم لتشريب اللحم ويوم لتشريب الدجاج، كما تتواجد الكبب بأنواعها البرغل أو الحلب، وكذلك الكباب والتكة، يفضل كثير من الصائمين أن تتهيأ المنقلة قبل الفطور لشواء الكباب والتكة على الفحم وقوري الشاي المهيل على الفحم المتقد بعد عملية الشواء. والرز وأحياناً السمك والدولمة، والهريسة المغطاة بالدارسين والهيل،والحنينية ، وبعض من العوائل لديها تنور لعمل خبز التشريب وشواء الدجاج أو السمك، كل هذه الموائد تتزين بالطرشي البيتي أو من السوق، أن ماذكرنه عن التنوع ليس المقصود كله موجود في يوم واحد وأنما يتوزع على أيام رمضان ولكن الشوربة والتشريب والطرشي من الأولويات، والمائدة الرمضانية تتطعم بالباقي حسب رغبة الصائمين، كما تشارك العوائل المسيحية بأرسال بعض من أكلاتها ككبة الحامض والكبة الكبيرة والصغيرة، وبدورها ترسل العوائل المسلمة بعض من أكالاتها والحلويات لجيرانه من العوائل المسيحية مما يبرهن قيمة التآلف والمحبة والأحترام المتبادل بينهما. بعد الأفطار وشرب الشاي المهيل يبدأ المدخنون وبلهفة جامحة تدخين السكائر أو النركيلة بشوق كمن وجد ضالته بعد ضياع طويل، بعد صلاة المغرب قسم يأخذ غفوة أستعداداً لصلاة التراويح والذهاب الى القهوة لتمضية سهرة رمضان، بعض النسوة في المحلة يتزاورون بينهم، حيث أن التلفزيون أيام زمان قناة واحدة ولاتوجد فيه من المسلسلات كما هو اليوم لكثرة القنوات والمسلسلات بل هي تعرض مسلسلة أو تمثيلية واحدة . يبدأ أكل الحلويات كالبقلاوة والزلابيا وفي السبعينات اضيفت زنود الست، وتبقى الزلابيا والبقلاوة ذات الحضور المميز على المائدة حتى أن البعض يطلق عليها لقب أميرة السهرات الرمضانية ، أما الشاي فهو متوفر على مدى الساعة وفي بعض البيوت فالسماور يستخدم طيلة الايام ويقدم الشاي بأستخدام الأستكان. تبدأ مجامبع الأطفال بالتجمع حيث يجوبون أزقة محلتهم ويمرون على كل بيت، وهم ينشدون الأنشودة الجميلة: ماجينة ياماجينا حل الجيسالكيسونطونا تطونة لو نطيكم بيت مكة أنوديكم ياهل السطوح تطونا لو اروح رب العالي يخليكم ويقومون بالدعاء لأهل البيت مع ذكر أسمائهم، ويقوم أهل البيت بأعطائهم الحلوى أو الجكليت أو النقود التي يفضلها الصبيان وهكذا. ويسهر الكثيرون حتى الساعات الأولى من الصباح للاستمتاع بكل لحظة من هذه الأمسيات الحافلة فالكثيرون يبتعدون عن برامجهم الروتينية. وينخرطون في عدد من الأنشطة المختلفة من صلاة التراويح وقراءة القرآن الكريم ثم الخروج ليلا وملاقاة الأصدقاء ومشاهدة التلفزيون ويقضون وقتهم في الاستمتاع بأنشطتهم المفضلة. المقاهي تعج بروادها وهنا تبدأ سيدة اللعب الرمضانية الا وهي لعبة المحيبس البات بين فريقين من محلتين أو منطقتين وتستمر حتى وقت السحور، والخاسر يدفع ثمن صينيتي البقلاوة والزبلاية، أن هذه اللعبة تبين قيم التآلف والمحبة والألفة السائدة في المجتمع، والطريف أن مقهى أبراهيم عرب كان أيضاً ملتقى لعبة المحيبس وكان أبراهيم عرب وضمن طرائفه المشهورة يحدث الفريقين وكل منهم يحوي على عشرة لاعبين، بانه أي أبراهيم عرب كان من أحسن لاعبي أيجاد المحبسالخاتم وكان يقود مجموعة الرصافة وعددهم الف لاعب ضد مجموعة الكرخ ولنفس العدد فكل مجموعة تجلس على ضفة نهر دجلة الرصافي في الرصافة والكرخي في الكرخ، وكان يذهب من الرصافة الى الكرخ بواسطة البلم وبيده فانوس وكذلك بطل الكرخ يأتي بواسطة البلم والفانوس بيده ويقول بأنه عند معانيته لوجوه الكرخين بواسطة الفانوس لم يرى أي أثر لوجود محبس في أي يد تحمله وهنا صاح بأن يفتح الجميع أيديم الكل طلك بالتعبير الشعبي أي لايوجد محبس مخبأ وظهر بأن من كان يحمل المحبس وبرهبة من أبراهبم عرب رمى المحبس في الماء ويقول أني أستطعت أيجاده في الماء قرب الجرف، وهذا ماقاله للفريقين مستهزأً بعددهم القليل وعدم دقتهم بأيجاد المحبس، وكانت قهوته مشهورة بأبراز بطولاته للقصص التي يوردها عن نفسه في أيام رمضان وغيرها من أيام السنة، كان هناك في بعض المقاهي راوي يتحدث عن السير القديمة كعنترة، وأبو زيد الهلالي، وألف ليلة وليلة من منا لا يملك كما هائلا من تلك الذكريات التي ترافقه وتتدرج معه في سنوات عمره، وعلى ما أتذكر إنه في اليوم الأول من رمضان، ونحن ننتظر المسحرجي ،كما تعودت آذاننا على سماع صوته الشجي الدافيء الذي رافقنا طوال الليالي وهو يقوم بأيقاظ النائم للسحور بصوته الجهوري وطرقات دمامه وبأيقاع جميل ومحبوك يتماشى مع مناداة التهيأ للسحور، المسحرجي عادة من المنطقة، وتبدأ أضوية المنازل تتلألأ ويبدأ تجهيز السحور، وتكون وجبته الجبن والبيض والرز والفواكه والعروك واللبن، وقسم من الصائمين يتوجه بعدها للصلاة في الجامع. في هذا الشهر قسم كبير من شرابة الخمر يمتنعون عن تناوله ويبدئون بالصيام، وقسم يصوم العشرة الأواخر لأن فيها ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، وقسم لايصوم ولكن يمتنع عن الخمر، وقسم ضئيل جدا من لا يلتزم. في العشر الأواخر من شهر رمضان تمتليء المساجد بالصائمين وتبدأ فترة قيام الليل وزيادة بقراءة القرآن والتمسك بالطاعة والصلاة، وقسم من الموظفين يأخذون الأجازة للتفرغ للعبادة وأحياء ليلة القدر الوترية للعشر الأواخر، والكل في خشوع وأبتهاج وصلاة تراها واضحة في وجوههم. وفي نهاية رمضان يبدأ التسوق للتزود بالملابس الجديدة وتحضير الكليجة وحشوها بالجوز المبروش أو التمر أو السمسم والسكر والهيل وقسم بدون حشو، وتعمل في البيوت وترسل الى الأفران أو في التنور لكي تكون جاهزة في اليوم الأول، ويذهب الرجال والأولاد للحلاقة، وتنصب المراجيح ودولاب الهوى في المحلات بأنتظار العيد. عندما نتحدث هنا عن ذكرياتنا الجميلة عن رمضان، وماحملتنا أجنحة الشوق إلى تلك الذكريات، حيث تتوارد إلى الذاكرة صور ومشاهد رمضان مع جيراننا وأهل أزقة منطقتنا الأعزاء، علينا نتناسى بعضا من هموم الحاضر ونقنع أنفسنا إن رمضان ما زال لنا بعد إن كبرنا، كانت الحياة تتسم بالبساطة والعفوية لا تخلو من جمال الصدق وتشيع مشاعر الحب والود، حتى الشوارع والأزقة والبيوت تعبر وتفصح عن أناسها الطيبين وهم يتطلعون الى قدوم العيد، تلك الذكريات نبع أحاسيس ومشاعر تغمرني وتحتل كياني هنا، حيث أسير كالطيف وقلبي يسع هذا العالم كله، وببعض التسامح والأجمل أن تكون القلوب صافية. ---------------------------------- تحقيقا أضيف بواسـطة : hassan التقييـم : 0 عدد المشـاهدات : 1421 مرات التحميـل : 843 تحميـل هذا اليوم : 0 تاريخ الإضافـة : 23/05/2017 - 09:35 آخـر تحديـث : 19/03/2024 - 09:30 التعليقـات : 0 رابط المحتـوى : http://www.ina-iraq.net/content.php?id=48462 رقم المحتـوى : 48462 ---------------------------------- وكالة الأنباء العراقية المستقلة Ina-Iraq.net