وكالة الأنباء العراقية المستقلة بغداد ,,,
بقلم: فريد هلال ,,
الشَّوْرَجَةُ ليستْ مُجَرَّدَ سُوقٍ، بَلْ هِيَ حِكَايَةُ بَغْدَادَ التِّجَارِيَّةُ المُمتَدَّةُ عَبْرَ الزَّمَنِ، شَاهِدَةٌ عَلَى تَبَدُّلِ العُصُورِ وازْدِهَارِ التِّجَارَةِ فِي قَلْبِ المَدِينَةِ. مُنْذُ العَصْرِ العَبَّاسِيِّ كَانَتِ القَلْبَ النَّابِضَ لِلاقْتِصَادِ، حَيْثُ تَوَافَدَ عَلَيْهَا التُّجَّارُ مُحَمَّلِينَ بِأَجْوَدِ البَضَائِعِ، مِنَ التَّوَابِلِ الَّتِي تَفُوحُ رَوَائِحُهَا فِي الأَزِقَّةِ، إِلَى الأَقْمِشَةِ المُطَرَّزَةِ، وَالعُطُورِ الَّتِي تُجَسِّدُ عَبَقَ المَاضِي.
فِي العَهْدِ العُثْمَانِيِّ ازْدَهَرَتِ الشَّوْرَجَةُ أَكْثَرَ، فَبُنِيَتِ الخَانَاتُ وَالأَسْوَاقُ المُسَقَّفَةُ، مِثْلَ خَانِ مَرْجَانَ، الَّذِي كَانَ مَحَطَّةً لِلقَوَافِلِ التِّجَارِيَّةِ، مِمَّا أَضْفَى عَلَيْهَا طَابِعًا حَضَارِيًّا وَتِجَارِيًّا مُتَمَيِّزًا. أَزِقَّتُهَا الضَّيِّقَةُ لا تَزَالُ تُحَافِظُ عَلَى رُوحِهَا البَغْدَادِيَّةِ الأَصِيلَةِ، حَيْثُ يَمُرُّ العَطَّارُونَ، وَالقَمَّاشُونَ، وَالنَّحَّاسُونَ، كُلٌّ يَرْوِي قِصَّةَ الزَّمَنِ الَّذِي عَبَرَ مِنْ هُنَا.
وَرَغْمَ التَّطَوُّرِ الاقْتِصَادِيِّ فِي العِرَاقِ، بَقِيَتِ الشَّوْرَجَةُ مَرْكَزًا تِجَارِيًّا صَاخِبًا، حَيْثُ تُبَاعُ البَضَائِعُ بِأَسْعَارِ الجُمْلَةِ، وَيَأْتِيهَا التُّجَّارُ مِنْ مُخْتَلَفِ المُحَافَظَاتِ، فَهِيَ مَحَطَّةُ اسْتِقْطَابٍ لِكُلِّ مَنْ يَبْحَثُ عَنْ الخَيْرِ الوَفِيرِ. اسْمُهَا المَأْخُوذُ مِنَ الفَارِسِيَّةِ "شُورْچِيَه"، الَّتِي تَعْنِي المَكَانَ الَّذِي تُبَاعُ فِيهِ المَوَادُّ المَالِحَةُ وَالمُخَلَّلَاتُ، يَعْكِسُ عُمْقَ نَشَاطِهَا القَدِيمِ فِي بَيْعِ التَّوَابِلِ وَالبَضَائِعِ الجَافَّةِ.
لَكِنَّ مَا يُمَيِّزُهَا أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ كَوْنِهَا سُوقًا، هُوَ احْتِضَانُهَا لِلْجَوَامِعِ وَالكَنَائِسِ، حَيْثُ وَسَعَ أَرْضُهَا جَعَلَهَا تَمْتَدُّ إِلَى أَطْرَافِ جِيرَانِهَا مِنَ المَنَاطِقِ التِّجَارِيَّةِ، وَكَأَنَّهَا تَحْتَضِنُ بَغْدَادَ بِرُوحِهَا المُتَعَدِّدَةِ الثَّقَافَاتِ. الأَرْوَعُ مِنْ ذَلِكَ، أَنَّكَ عِنْدَمَا تَتَجَوَّلُ بَيْنَ أَزِقَّتِهَا، سَتَشُمُّ مَزِيجًا فَرِيدًا مِنْ عُطُورِ مَخَازِنِ بَضَائِعِهَا، مَمْزُوجًا بِنَسِيمِ دِجْلَةَ القَرِيبِ، وَكَأَنَّهَا تَهْمِسُ لَكَ بِسِرِّ بَغْدَادَ العَرِيقِ، بَعِيدًا عَنِ الأَمْتَارِ، قَرِيبًا إِلَى القَلْبِ. |